حينما التقيت بشفق لم يدر بخلدي قط أن قاسماً مشتركاَ قد يجمعنا يوماً ما .. ولو أخبرني أحدهم أننا سنرتمي قريباً في حضن بعضنا كحبيبين لظننته يهذي أو به مس من الجنون ..
كان لقاؤنا كأيّ غريبين يلتقيان لأول مره .. بلا اكتراث ولا مبالاةٍ ..
ابتدأ تعارفنا بحوار قصير بلهجة حادة وغير مبررة منها .. أصابتني الدهشه .. أيّ أنثى هذه التي تبتدر غريباً تراه للمرة الأولى بهذه النبرة العدائيه .. قررت في سري أنها مخلوقة غريبة الأطوار ، ولعنت اليوم الذي أتى بي إلى ذلك المكان .
تكررت اللقاءات عدة مرات بعد ذلك ولكنها كانت عابره ودون إطاله، ولكن دون عداء .. شكراً للرب.
حكى لي عنها بعض الأصدقاء ممن عرفوها قبلاً .. شدّتني تلك الحكايات برغم أنها كانت عاديه .. لكن شيئاً ما جعلني أتمنى أن اقترب منها أكثر ، فبرغم ما تبديه من صلابةٍ وقوة شخصيه إلا أنها كانت - بالنسبة لي على الأقل - ذات أنوثة طاغيه ..
بدأتُ أنتبه لبعض تفاصيلها .. شدّني ذلك السوار الرقيق حول معصمها .. وساعة اليد .. بل وتلكم الكف والأنامل .. نعم .. أعلم مايدور في رؤوسكم الآن .. تفكرون يا له من بائس .. سوار و كف و .. و ..! أيّ رجل هذا الذي يترك أنثى كاملة الأنوثه ليتأمل في معصمها و.. فليكن .. فكروا كما تريدون.
بمضي الأيام انزاح ذلك التوتر بيننا .. ثم فجأة وذات يوم طلبت رقم هاتفي المحمول أثناء حوارنا عن أمر ما .. لا أذكر الآن على وجه الدقه لماذا أرادت ذلك .. المهم أنني كنت انتظر ذلك اليوم ، كنت أريد ذلك أيضاً وبشده .. ولكن كلما تذكرت لقاءنا الأول ترددت ونكصت عن ذلك ..
وابتدأ الحوار الأثيري بيننا تدريجياً ..
راسلتها بتحفّظ باديء ذي بدء .. ثم أصبح الحوار تلقائياً شيئاً فشيئا .. شجعتني هي بتجاوبها معي .. تناقشنا في كل شيء .. السياسه .. الناس .. العمل .. الحب .. الأدب .. الدين .. أدهشتني بعقل متفتح .. وآراء جريئه .. كانت لاتُمَل .. كنا نقضي الساعات الطوال نتحاور ونتبادل الأفكار أثيرياً .. قبل النوم .. بعد الاستيقاظ .. أثناء تناول الوجبات .. على متن البص .. أثناء العمل .. أمام التلفاز .. أثناء تناول الشاي والقهوه .. باختصار .. عند كل شهيق وزفير .. كنا في حالة إدمان .
ذات مساءٍ جميل سألتها عن سرّ تصرفها العدواني يوم التقينا لأول مره .. ضحكَتْ .. لم تحر جواباً .. قالت أنها لاتملك تفسيراً مقنعاً .. واعتذرَتْ .. قالت أنها تريد أن تكفِّر عن ذلك وتركت لي الخيار .. مازحتها مبتسما أنني لن أرضى بأقل من عشرة أشياء اختارها أنا للتعويض عن الضرر النفسي الذي أصابني حينها ..
ضحكنا كثيراً .. كنا نشعر بسعادة لا توصف .. وارتياح يصيبك بالتخمة الروحيه ..
ودون أن ندري كنا قد انتقلنا إلى بعد آخر .. نعم سادتي .. البعد الثالث ..
داهمنا الحب بغتةً وبعنف .. وكما قرأت في قصة أخرى أقول أنه كما لو أن حجر العشق ألقي في بركتنا الساكنه .. فنشأت تلك الدوائر وصارت تكبر وتتسع بسرعة مذهله .. كان الأمر محتوماً .. ورغم ذلك لم يقل أحدنا للآخر شيئاً عن ذلك .. احتفظ كل منا بتلك العواصف في داخله ، بينما كانت أعيننا وإيماءاتنا تشي بنا وتفضح مكنونات القلوب المضطربه ..
ذاك المساء حدثتني عن ذلك الإحساس بالبرد الذي لم يفارقها منذ أن قبّلت يدها .. قلت لها ما قاله ابن زيدون لولّاده بنت المستكفي حين طلبته لأمر .. أنّ هذا الأمر ، أي البرد ، علاجه بالضمّ ..
لم ننم تلك الليلة إلا بعد أن نال كل منا حظه من الاستشفاء بين ذراعي الآخر .. ويا له من ترياق .
لا أدري سادتي ماهو مقياس الحب لدى العشاق .. ما أنا موقن به أننا كنا نحتاج لمقياس خاص بنا نحن فقط .. فقد كنا نعيش في كوكبنا الخاص .. لا نتنفس الأوكسجين .. لا تحكمنا قوانين الجاذبيه .. نمشي على الماء .. نكتب الحب كما شئنا .. نحدّث العصافير بلغتها .. اعتنقنا مذهباً كنّا نصلّيه عند كل همس وعناق .. كان انتظار اللقاء إلى اللقاء هو ما يبقينا على قيد الأشواق .
كنا نفهم ما يدور بخلد كل منا بمجرد التقاء الأعين .. وعند التقاء أيدينا كنا نستشعر غليان أجسادنا وحوجتها أيضاً للّقاء ..
صدقَتْ (أحلام) حين كتبت : (أجمل حب ذاك الذي نعثر عليه أثناء بحثنا عن شيء آخر). نعم .. لقد تعثّرنا سويّا في الحب أثناء شجارنا الأول .. أثناء انشغالنا بإظهار جانبٍ غير مضيء فينا ..
المهم .. استمر الحال بيننا على ذلك النحو مدة ليست بالقصيره .. ثم ..
لعلّكم تتساءلون سادتي .. حتى متى ؟!
حسناً .. هل من الضروري أن يكون ختام القصة بزواج الأبطال كأي رواية شرقية كما قال (نزار) ؟
أم أنها تراجيديه مأساويه بموت أحدهم أو خيانة الآخر ..؟
أم أن للأقدار طريقاً اختطته لنا بليلٍ ونحن في غمرة الحب ساهون .. ؟
وبينما أنا ابحث عن مخرج لهذه المعضله أيقظني رنين المنبه على الطاولة الصغيرة بجانب السرير .. لعنت في سري ذلك التوقيت غير المناسب الذي حرمني من قدر لا أعلمه ولكني رغم ذلك أرتجيه ..
وداعاً حلمي الجميل ..