2012-01-01

في زمن الغربة والارتحال .. جيل إنغازي

مقدمه :
عفواً سادتي .. لايوجد خطأ إملائي في العنوان .. 
نص :  
قابلتني السنه الجديده 2012 م وأنا أسير في طريق العوده من المستشفى إلى المنزل بعد انتهاء مناوبتي لهذا اليوم ، عفواً اقصد لذاك العام المنصرم 2011 ..  
الطريق خال من المشاة ما عداي ، لا يعكر صفو الهدوء سوى صوت بعض السيارات القليله الماره .. الإضاءة ، مع أشجار النخيل التي تتوسط الطريق ، والبرد الخفيف جدا (على عكس الايام الماضيه) ، كلها شكلت مشهداً تداعى في مخيلتي يذكرني بيوم مشابه عند نهاية العام 2009 .. مع اختلاف الأمكنه والديكور .. (ابتسامه) .. 
فمع مطلع الدقائق الأولى للعام 2010 م كنت أسير في الطريق متجهاً من حوادث الأطفال بمستشفى كسلا التعليمي إلى ميز الأطباء الكائن في مواجهة مبنى جهاز الأمن الوطني .. (غمزه بالعين الشمال)
يختلف المشهد في عدم وجود أشجار نخيل هنا (كسلا) ، وخفوت الإضاءه نسبيا ، وبالتأكيد الأسفلت الذي يختفي معظمه تحت تراب السنين المعتق برائحة الشرق .. ولكن الفرق الأهم بالنسبة لي أنه وعندما انتصف الليل تماما وأنا في منتصف المسافه أطفئت الأنوار كلها لمدة خمس ثوان   بشكل مقصود طبعاً ، (يعني بالعربي كده حتى ناس الكهرباء الثقيلين في السودان عندهم طريقتهم في الاحتفال ) .. أما اليوم وأنا في هذا البلد ، لا أحد يطفيء الأنوار ولا أحد يرميك بالبيض أو الأكياس المليئه بالماء والألوان .. فقط واصلت مسيري إلى أن دلفت إلى المنزل .. 
اكتب الآن وأنا اتناول شطيرة لابأس بها ( بالمناسبه تعريب كلمة سندوتش هو : شاطر ومشطور وبينهما طازج) ، وارتشف كوباً من الشاي الساخن ، وأفكر ، كيف يحتفل الناس بتناقص أعمارهم واقتراب قيامتهم بهذا الفرح ؟! 
نحن السودانيين نحتفل ببداية العام الميلادي كحدث ثانوي ، لأن الحدث الأكبر هو أن الأول من يناير من كل عام هو عيد الاستقلال ، أي أنه مناسبة وطنيه من الدرجه الأولى ، هذا ما يجب أن يتعلمه جيل اليوم .. 
(في زمن الغربة والارتحال 
تأخذني منك وتعدو الظلال 
وأنت عشقي 
حيث لا عشق يا سودان إلا النسور الجبال 
ياشرفة التاريخ
ياراية منسوجةً من شموخ النساء
وكبرياء الرجال ) .. 
كلما أذكر كيف غيرت الطغمة الحاكمه الآن موروثات جيل بأكمله عن طريق الآله الإعلاميه ، أتألم بشده .. هذا الجيل الذي ولد في عهد ثورة (الضياع) ، لم يكن متوفراً لهم غير مايبثه برنامج (في ساحات الفداء) ، والجلالات العسكريه ، وغيرها من الحشو الذي امتلأت به العقول غصبا عنها ، ساعدهم في ذلك المطبلين من الشعراء والمطربين الذين صكوا آذاننا بالغث من الغناء الذي يمجد الحاكم وطغمته .. حتى نشرة الأخبار جعلوا مقدمتها الموسيقيه من ذلك الهراء , ولكن الأكثر إيلاماً هو اندثار تقليد ترديد نشيد العلم في طابور الصباح في المدارس (إلا القليل منها ) واستبداله ب : صفا ... انتباه ! أي ضياع اكبر من أن نربي أطفالنا بلا نشيد وطني ، ونغرس في عقولهم النزعه العسكريه منذ سني عمرهم الأولى التي تشكل حجر الاساس في تكوين شخصياتهم مستقبلاً ! .. (وجه محبط) .. 
هذا الجيل الذي لم يستمع للأناشيد الوطنيه العظيمه لمحمد وردي والعطبراوي وعثمان الشفيع واحمد المصطفى وغيرهم ، ولم تتسن له الفرصه ليقرأ شعر هاشم صديق ومحجوب شريف والفيتوري ومبارك بشير والقدال وحميد وغيرهم ، هذا الجيل الذي نشأ على أنغام شنان وقيقم وبخيت ، و ترهات العميد يونس محمود عن الشعب السوداني البطل (أو الفضل كما يحلو للبعض) ، والكذب والخرافات عن الملائكه التي تقاتل مع الجيش ضد (المتمردين) ، ورائحة المسك المنبعثه من جثث (الشهداء) ، والنحل الذي أنقذ المشاة من الكمين ، والشهيد الذي أكمل سورة يس مع زملائه (أثناء) إنزاله داخل المقبره .. (كان الواجب عرضه على طبيب فربما لازال حياً!) .. (وجه مندهش جداً) .. 
جيل لا يعرف شيئاً عن تاريخ السودان القديم والحديث .. 
(ههنا يبتسم النهر القديم 
لبعانخي .. 
ولتهراقا .. 
وللمهدي .. 
لعلي عبداللطيف ..
ولعبدالقادر الحبوبه 
للقرشي ..
للصمود العذب في كرري .. 
وللموت الفدائي العظيم 
نذكر الآن جميع الشهداء ..
جل تاريخ السودان في الأبيات الخالده أعلاه والتي صدح بها وردي ، أنظروا كيف يشكل الشعر والفن وجدان أمة كاملة بما يحمله من موروثاتها ..
أفلحت ثورة (الضياع) في تغيير المناهج الدراسيه فأضاعت تاريخنا المجيد ، وتمخضت عن جيل لايعرف من هو عبدالرحمن النجومي ومن هو المك نمر ! 
ولا غرابة في ماحدث لجيل (الدفاع الشعبي) ، فأي أمة لا تحتفي بمفكريها وكتابها وشعرائها وأدبائها يصيبها ما أصاب الجيل المنكوب ، ف (الإنغازيون) ،  نعم قصدت كتابتها كما ترونها ، قد نجحوا في مطاردة الادباء والشعراء وصفوة المفكرين وأدخلتهم بيوت الأشباح (الاسم الذي يطلق على اماكن التعذيب في هذا العهد الكئيب) وشردتهم من وطنهم ، وحاربت نصوصهم وقصائدهم ، فكانت النتيجه تردي الذوق العام ، وغياب الوعي وانتشار الثقافه (الإنغازيه) وتردي اللغة العربيه حتى على مستوى جهاز التلفاز الرسمي للدوله ، فصرنا أضحوكة ونكتة في فم من يسوى ولا يسوى .. 
جيل لم يعد يحترم المعلم وضاعت مكانته الاجتماعيه  -  فبعد أن كان في زمن ما يغنى للمعلم ( يا الماشي لي باريس - جيب لي معاك عريس - شرطاً يكون لبيس - ومن هيئة التدريس) ، أصبحت الاغنيه (أبرا من الاستاذ وطبيب الامتياز !) -  ولا يحترم كبير السن (ويناديه : يا جلك - بضم الجيم واللام ) ، ولا الجار ، جيل الأفلام الهنديه التي خدرت عقولهم بأبطالها الهلاميين ، جيل لغة الراندوك ، جيل (راجل المرة) ، جيل يحمل دفتر المدرسه مطويا في جيب البنطلون الخلفي ، جيل (يخمس) السيجاره مع مدرس المدرسه ، ومصدر ثقافته جريدة الدار ، جيل يعرف تماما متى ستلد المطربه الفلانيه ، ولماذا طلق المغني الفلاني زوجته ، وماهي أحب مأكولات الممثل الفلاني ، ولو سألت أي منهم: ماذا تعرف عن محمد أحمد المحجوب؟ لظن أنك تسأله عن مطرب جديد في الساحه لم يسمع به بعد !! 
جيل يحتفل اليوم بعام ميلادي جديد ومنهم من لا يعرف أنه عيد الاستقلال .. (وجه غاضب) ..
كيف سيربي هذا الجيل الاجيال القادمه التي ستحكم السودان ؟ أين ذهب جيل العطاء المستجيش ضراوة ومصادمه ، المستميت على المباديء مؤمنا ، المشرئب الى النجوم لينتقي صدر السماء لشعبنا؟! 
فليحدث كل منا من يعرف من هذا الجيل عن هذا الوطن ، أو بالأصح عن ما تبقى منه ، عن رجال ونساء أفنوا عمرهم في خدمته وسعياً لرفعته دون طلب لأجر ، عن ثوار هزموا الطغاة ، عن إرث أدبي وتاريخي وانساني لن يمحى مابقيت الأرض تدور ، عن شهداءٍ لم تعبقهم رائحة المسك ، بل تعطروا برائحة تراب هذا البلد ، عن جيش هزم الاستعمار التركي دون خرافات ملائكيه ، عن شعرائنا وكتابنا واساتذتنا الاجلاء ، عن الاحترام  وعن أنفسهم .. 
وللأوطان في يد كل حر         يد سلفت ودين مستحق 
وعذرا لأني سرحت حبه كده ،كلو من مغستي بس .. (غمزه بالعين التانيه ) .. 
    




18 comments:

  1. يا صديق الوجع اللذى ملأ علينا النواحى
    لا تلمهم (جيل الانغاز) على ما لايملكون .. فهذا
    مبراثهم اللذى وجدوه
    فقد ضيّعهم اللذين سمحو لهؤلاء (الانغازيين) بالتمدد فى مسام الوطن وشرايينه
    اللذين ما قالو لا فى وجه ظالم.... ن
    نحن أولى بالملامه (خت الملامه على)لأننا لم نصادم أو نجالد
    وكان حسّنا الوطنى ضعيف ..ولم نكن الانموذج ولا القدوه اللتى ثبذل تضحيات تتلائم وضخامة الغول اللذى جثم علينا...ومن شابه أباه فما ظلم

    ReplyDelete
  2. (أين ذهب جيل العطاء المستجيش ضراوة ومصادمه؟؟؟) هاهها
    شتت السعوديه


    واحد مستجيش برضو

    ReplyDelete
  3. المغس كتير يا صاحبي . والناس خلاص اتعودت عليه وبقى هو الطبيعي عندها. كلامك عن نشيد العلم في المدارس ذكرني لما كنا في الاقامة الريفية في الحاج عبد الله ولما مشينا مدرسة الاساس للبنين والاولاد في الفصل غنو لينا نشيد من اغاني وردي حفظو ليهم الاستاذ . اما كلام المناهج ده فذكرني مقال كان في جريدة كتبتو واحدة عن ولد في سنة تانية اساس اتجادل مع المعلمة انو صورة علم السودان في الكتاب مرسومة غلط واصر على كلامو لما الاستاذة نادت اهلو وفي النهاية اكتشفو انو كلام الولد صاح والعلم الوانو معكوسة . يا صاحبي خليها على الله . دمت بخير وكل عيد استقلال وانت طيب ويمكن يجي يوم من الايام ونغير تاريخ الاستقلال لما نستأصل الشرذمة القاعدة في الحكم دي

    ReplyDelete
  4. يا سلام يا هاني....من اجمل ما قرأت مؤخرا....لي عوده

    لهذا الجمال

    عثمان حجاج

    ReplyDelete
  5. ياسلام عليك با رائع,,حديث اصاب كبد الوجعة,,,,,,,لك الله يا وطنى.

    ReplyDelete
  6. يا سلام عليك بارائع ,,, حديث اصاب كبد الوجعة ,,,, لك الله يا وطنى.

    ReplyDelete
  7. سلام ياطه
    والله كلامك ده فرحني عن الولد الفطن ده ، معناها لسه حواء والده وفي باقي خير

    ReplyDelete
  8. شكرا عثمان ويوسف والمستجيش والمجهول على المرور

    ReplyDelete
  9. حينما تكون المشكلة هي جيل بأكمله عندها تسمى مصيبة وأي مصيبة ،ان هذا الجيل وللأسف سقط في هوة أصبح من الصعب جدا خروجه منها فقد تربوا على أيدي اباء أنهكهم الهم قبل التعب في محاولة شبه يائسة لتوفير الحياة الكريمة لأبنائهم ولينالوا نصيبهم من التعليم قبل التربية ناسين أو متناسين تغير الشارع العام الى النقيض وسيطرة المادة عليه أضف الى ذلك الفضائيات التي غزت وغذت عقولهم بثقافات لا تشبهنا ولا نشبهها وفوق كل ذلك انحدار التعليم الذي طمث كل معالم التاريخ والثقافة وأضحى كل الهم حق الطبشير والكهرباء ودرس العصر الذي صار يدرس بعد الحصص،بعد كل هذا هل لهذا الجيل أن يمجد عظماء لم يسمع بهم وأن يتمسك باخلاق لم ينشأ عليها؟؟

    ReplyDelete
  10. شيري
    موضوع التعليم ده كبييير جدا ولايتسع المجال لذكره هنا ، وانا اعيش مع شاهد على العصر (والدتي) واعلم المرارات التي يعيشونها ، قصص الطباشير والكهرباء والنفايات واتحاد الطلاب ونقابة( عمال) التعليم وفساد الاداريين ومشاكل الإجلاس والكتاب المدرسي والانضباط وغيره وغيره .. هسه الا اقوم ابلع لي مضاد للحموضه ، وجع المعده زاد علي ...

    ReplyDelete
  11. هذا الشبل من ذاك الأسد .. وتسلم البطن الجابتك .. هاني أُحييك من الأعماق وكلي فرح بك .. والتجلة للوالد والوالدة على هذا الغرس الطيب .. الشامخ إلى عنان السماء .. لك الود والحب .. وموفق دوماً يا رب.

    ReplyDelete
  12. سلامات وسنة حلوة
    في معاينة فى مدنى قبل شهرين كانت الاسئلة كالتالى:
    1 الرفع علم الاستقلال منو؟
    2 اول شهيدة فى الاسلام منو؟
    كانت اجابات المتقدمات للوظيفة كالتالى:
    1 عمر البشير,الترابى,نميرى
    2 سمية الخشاب علما ان هذه الاجابة بعد مساعدة رئيس اللجنة(مثل انو بخيط بابرة)ز
    ولا تعليق يا عزيزى

    ReplyDelete
  13. - استاذه هدى ، شكرا لك
    - المجهول : والله بعد قريت تعليقك ضحكت لمن بطني وجعتني ، سميه الخشاب؟؟؟ والله هانت السيره النبويه في هذا الزمن - بعدين قصة نميري والترابي وثالثهما دي لو سألت في كل مدارس الثانوي حتكون نفس الاجابه -- ده غسيل المخ الانغازي - يااااااارب نصرك

    ReplyDelete
  14. اّااخ التهاب المرئ الارتجاعى قام على.

    ReplyDelete
  15. سلامات ياهاينى على الكلمات المعبرات وحقيقه لاشك فى ان الاجيال الموجوده على الساحه اجيال مستلبه ثقافيا ومغيبه فكريا وسياسيا ديه ووطنيا ولاشك غياب التربيه الوطنيه وعدم وجودالقدوه حيث اغلب الشباب والاباءالمثقفين اختارواالغربه والهجره للظروف الاقتصاديه والكبت السياسى والثقافى ومن تبقى منهم اثرالانضواءخلف ظروف الحياه ومنهم من سايرالتيارلكى يضمن البقاء

    ReplyDelete
  16. روعة يا دكتزر ... كفيت و وفيت ... و لا حياة لمن تنادى ؟؟؟

    ReplyDelete
  17. سلام عليكم يا هاني
    كلامك جميل وبمناسبة انو الجيل الاتولد في عهد الانقاذ ممسوخ ولا ما مثقف ولا ما عارف الحاصل شنو في الدنيا
    في ود جيرانا في الكلاكلة صغير يدوب عشرين سنة
    بقرا دبلوم هندسة في جامعة الامام الهادي
    يوم قلتليهو انت يا فلان الامام الهادي دا يطلع منو
    قال والله ما عارفو
    هههههههههههههه
    لكن يا هاني نحنا السودانيين خصوصا والعالم عموما كلنا بنتكلم عن الزمن الجميل والعصر الذهبي لكن اقرا معاي الحكمتين ديل:

    1-طوال التاريخ..لم يكن العصر الذهبي مطلقاً ينطبق على العصر الذى نعيش فيه.

    2-لم يخلُ عصر من الاشادة بالماضي والتأسف على الحاضر.

    وتقبل تحياتي
    "كلاكلة" من سودان فورم دوت نت

    ReplyDelete
  18. كلاكله سلام
    ياخي الحمد لله الما قال ليك ده إمام جامع الحله ..
    مسألة الحنين الى الماضي (نوستالجيا) والبكاء عليه كما قلت ليست حكرا علينا ..
    ربك يصلح الحال

    ReplyDelete

Feel Free To Write Your Response..